سورة الأنبياء - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ(40)}
أي: القيامة، والبغتة: نزول الحدث قبل توقعه لذلك {فَتَبْهَتُهُمْ...} [الأنبياء: 40] من البهت: أي: الدهشة والحيرة، فإذا ما باغتتهم القيامة يندهشون ويتحيرون ماذا يفعلون؟ وأين يفرون؟
والبغتة تمنع الاستعداد والتأهُّب، وتمنع المحافظة على النفس. ومن ذلك ما كانوا يفعلونه أوقات الحروب من صافرات الإنذار التي تُنبّه الناس إلى حدوث غارة مثلاً، فيأخذ الناس استعدادهم، ويلجئون إلى المخابئ، أمَّا إن داهمهم العدو فجأة فلن يتمكنوا من ذلك، ولن يجدوا فرصة للنجاة من الخطر.
ومن البَهْت قوله تعالى في قصة الذي حَاجَّ إبراهيم عليه السلام في ربه: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ...} [البقرة: 258].
وقوله: {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء: 40] أي: لا يُمهَلُون ولا يُؤخَّرون، فليست المسألة تهديداً وننصرف عنهم إلى وقت آخر، إنما هي الأَخْذة الكُبْرى التي لا تُرَدُّ عنهم ولا تُؤخَّر.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ...}.


{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(41)}
سبق أنْ خاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً..} [الأنبياء: 36] لذلك يُسلِّيه هنا: لست بدعاً من الرسل، فَخُذْ هذه المسألة بصدر رَحْب، فلقد استهزئ بالرسل من قبلك فلا تحزن، فسوف يحيق بهم ما صنعوا، ويجدون عاقبة هذا الاستهزاء.
كما جاء في قصة نوح عليه السلام: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ...} [هود: 38] فيردُّ نوح: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] أي: انتظروا النهاية، وسوف ترون!!.
ومعنى: {فَحَاقَ...} [الأنبياء: 41] أي: حَلَّ ونزل بقسوة {بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنبياء: 41].
وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ} [المطففين: 29-31] أي: مسرورين فرحين، وهذا دليل على لُؤْمهم ورذالة طباعهم، فلم يكتفوا بالاستهزاء، وإنما يحكونه وينبجحون به. {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 32-36].
هل استطعنا أنْ نُجازيهم بما عملوا؟ نعم يا ربّ.
ولا ننسى أن استهزاء الكفار بأهل الحق استهزاء موقوت بوقته في الدنيا، أمّا استهزاء الله بهم فاستهزاء أبديّ لا نهايةَ له. ويجب هنا أن نتنبه لهذه المسألة، فكثيراً ما يتعرض أهل الإيمان للاستهزاء وللسخرية من أهل الباطل، وهؤلاء الذين يسخرون منهم لأجلهم يصون الله لهم الحياة ويدفع عنهم العذاب، كما جاء في الحديث القدسي: (فلولا أطفال رُضَّع، وشيوخ رُكّع، وبهائم رُتَّع لصببتُ عليكم العذاب صباً).
فحين ترى تقياً، فإذا لم تشكره على تقواه وتقتدي به فلا أقلَّ من أنْ تدعَه لحاله، لا تهزأ به، ولا تسخر منه؛ لأن في وجوده استبقاءً لحياتك وأَمْنِكَ، وأقل ما يمكنك أنْ تُقيِّم به التقى: يكفيك منه أن أمنتَ شرَّه، فلن يعتدي عليك، ولن ترى منه شيئاً يسؤوك.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار...}.


{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ(42)}
أي: يرعاكم ويحفظكم، وكأن الحق سبحانه وتعالى يُجري مقارنة بين إنعامه سبحانه على عباده وما يقابلونه به من جحود ونكران وكفران، أنتم تكفرون بالله وتُؤذُون الصالحين من عباده وتسخرون منهم، وهو سبحانه الذي {يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار...} [الأنبياء: 42] أي: كلاءة صادرة من الله الرحمن.
كما في قوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله...} [الرعد: 11] فليس المراد أنهم يحفظونه من أمر الله الذي أراده الله فيه؛ لأن الحِفْظَ صادر من الله، والحفَظة مكلّفون من قبله تعالى بحفظكم، وليس تطوُّعاً منهم. وكلاءة الله لك وحفْظه إياك في النهار وفي الليل وأنت نائم عليك حَفَظة يحفظونك، ويدفَعون عنك الأذى.
وكثيراً ما نسمع أن بعض الناس قام من نومه فوجد ثعباناً في فراشه، ولم يُصِبْه بسوء، وربما فزع لرؤيته فأصابه مكروه بسبب هذا الخوف، وهو لا يعلم أن الثعبان لا يؤذيه طالما أنه لم يتعرَّض له، وهذا من عجائب هذه المخلوقات أنها لا تؤذيك طالما لا تؤذيها. إذن: لا أحدَ يرقبك ويحفظك في نومك مِمَّا يُؤذيك إلا الحق سبحانه.
وكلاءة الله لكم لا تقتصر على الحِفْظ من المعاطب، فمن كلاءته سبحانه أن يمدّكم بمقوّمات الحياةَ، فالشمس بضوئها، والقمر بنوره، والأرض بنباتها، والسماء بمائها. ومع هذا تكفرون به، وتسخرون من رسله وأهل طاعته؛ لذلك يقول بعدها: {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42] وما كان يصحّ أنْ يغيبَ ذِكْره تعالى عنهم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا...}.

10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17